لقد زين الشيطان الدنيا وزخرفها في قلوب كثير من الناس فركنوا إليها واطمأنوا بها وعضوا عليها بالنواجذ ونشبوا فيها أظفارهم .. ففيها يعادون وعليها يتنافسون ومن أجلها يتباغضون ويتحاسدون ونفذ فيهم إبليس اللعين خطته حيث قال : لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين .

و يا أسفاه !! لقد اتبعوه وأطاعوه إلا من اعتصم بالله ولجأ إلى الله ورمى الدنيا خلف ظهره .. ولقد صدًَق إبليس اللعين عليهم ظنه فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين ولو عرف الناس حقيقة الدنيا ما أقاموا لها وزناً ولا جعلوا لها في قلوبهم مكانةً ولا على ألسنتهم ذكراً .

والله خالقها يقول :

 ﷽ ﴿ اعْلَمُوا أَنَّمَا الحَيَاةِ الدُّنْيَا لَعَبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعْجَبَ الكفار نباته ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًا ثُمَّ يَكُونَ حَطَامًا وفى الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ ومغفرةٌ من الله ورضوَانٌ ومَا الحَياةُ الدُّنْيا إلا مَتَاعُ الْغُرُور ﴾ [ الحديد : 20 ]

فالحياة لعب ولهو وزينة والعاقل هو من جعل الدنيا مزرعة للآخرة وأخذ منها الزاد النافع .

قال تعالى : ﷽ ﴿ وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولى الألباب ﴾

ومن العجيب أن الناس يتنافسون في الدنيا ولا يتنافسون في الآخرة .. وربنا جل وعلا أمرهم بعكس ذلك فقال عند ذكر الدنيا :

﷽ ﴿ فَامْشُوا في مناكبها ﴾ [ الملك : 15 ]

أي امشوا مشيا بطيئاً .. فإن الرزق معلوم .. وأما عند ذكر الآخرة فقال :

﷽ ﴿ وَسَارِعُوا إلى مَغفرة من ربكُمْ ﴾ [ آل عمران : 133 ]

فطلب المسارعة وقال أيضاً :

﷽ ﴿ وفى ذلك فليتنافس المتنافسون ﴾

منافسة وسباق ومسارعة في الآخرة .. ولكن انقلب الحال ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم .

وقال النبي ﷺ : « إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف ،تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء »

وقال أحد الصحابة : أتيت النبي ﷺ وهو يقرأ ﷽ ﴿ ألهاكم التكاثر ... ﴾ [ التكاثر : 1 ] قال : « يقول ابن آدم مالي .. مالي وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأبقيت » رواه مسلم

« فـ والله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم »

ويستخدم النبي ﷺ أسلوباً جديداً في التذكير والوعظ والتعليم .. وهذا الأسلوب أجدر بمن يتشدقون بحضارات الغرب وتربية الأجانب أن يدرسوه وأن يفهموه ألا وهو التعلم والتعليم بالمشاهدة .

فالنبي ﷺ يمر بالسوق فيجتمع الناس حوله فيجد خروفًا ميتاً أسكاً ( أي مقطوع الأذن ) فيتناوله من أذنه ثم قال : « أيحب أحدكم أن يكون له هذا بدرهم ؟! » فقالوا : ما نحب أنه لنا بشيء فما نصنع به فـ والله لو كان حياً لكان عيباً فيه أنه أسك فكيف وهو ميت فقال ﷺ : « والله هذا للدنيا أهون عند الله من هذا عليكم » رواه مسلم

انظروا إلى النبي ﷺ في هذا الحديث الشريف لا يمسك الخروف الميت من بطنه أو من رجله ولكن يمسكه من أذنه أي التي فيها العيب .. ثم يضرب للصحابة هذا المشهد فيسألهم فيجيبوا .. وليستثير الهمم وليشغل العقول ثم يعطيهم ما يريد أن يعطيهم .. والشاهد هذا الحديث أن الدنيا هينة على ربنا تبارك وتعالى .. ولكن لقد طغى حب الدنيا في قلوب كثير من الناس حتى عبدوها من دون الله .

ولذلك يقول ﷺ : « تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة.. إن أُعطى رضى وإن لم يُعطَ سخط » رواه البخاري في صحيحه

وتعالوا لنرى كيف كان حال السلف الصالح مع الدنيا حيث يقول الحسن البصري رحمه الله : ( رحم الله أقواماً كانت الدنيا عندهم وديعة .. فأدوها إلى ائتمنهم عليها ثم راحوا خفافاً ) .. وقال أيضاً : ( من نافسك في دينك فنافسه .. ومن نافسك في دنياك فألقها في نحره ) .. وقال على كرم الله : ( الدنيا هي دار .. من صح فيها سقم ومن أمن فيها ندم ومن افتقر فيها حزن ومن استغنى فيها افتتن .. في حلالها الحساب وفي حرامها العقاب ) .. وقال مالك بن دينار : ( بقدر ما تحزن لدنيا يخرج هم الآخرة من قلبك .. وبقدر ما تحزن للآخرة يخرج هم الدنيا من قلبك ) .

وقال الحسن : ( والله لقد أدركت أقواماً كانت الدنيا أهون عليهم من التراب الذى تمشون عليه .. لا يبالون أشرقت الدنيا أم غربت .. ذهبت إلى ذا أو ذهبت إلى ذا ) .. سبحان الله !! هذا حالهم وهذا حالنا .. واستمر السلف الصالح ومن سار على نهجهم في نظرتهم تلك إلى الدنيا فيقول الشافعي رحمه الله : ( الدنيا دار مذلة .. عمرانها إلى الخراب صائر .. وساكنها إلى القبور زائر .. شملها على الفرقة موقوف .. وغناها إلى الفقر مصروف .. الإكثار فيها إعثار .. والإعثار فيها يسار .. فافرغ إلى الله وارض برزق الله .. لا تتسلف من دار بقائك .. فإن عيشك ظل زائل وجدار مائل .. أكثر من عملك .. واقصر من أملك ) .. واعلم أن حب الدنيا إذا طغى على القلب فتح للشيطان باباً آخر ألا وهو طول الأمل .

رائع احسنت النشر