+2
moment
AsHeK EgYpT
6 مشترك
AsHeK EgYpT
نائب الإدارة
البلد :
الجنس :
المساهمات : 2169
العمر : 28
السٌّمعَة : 45
الجنس :
المساهمات : 2169
العمر : 28
السٌّمعَة : 45
نائب الادارة
هذا العضو ينتمي إلى مجموعة نائب الادارة!
خبير المنتديات
هذا المستخدم خبير في استضافة منتديات أحلى منتدى المجانية
إعجاب المساهمات
لقد أعجبك أكثر من 50 مشاركة!
عضو مُساهم
لقد شارك هذا العضو في أكثر من 100 مشاركة وتعليق!
عضو مُخضرم
هذا العضو ينتمي إلى هذا المنتدى منذ 2 سنة!
عضو ودود
لقد أضاف هذا العضو أكثر من 10 أعضاء من أعضاء المنتدى كأصدقاء!
عضو مُتسلق
لقد شارك هذا العضو في أكثر من 100 موضوعًا مختلفًا ، استمر في ذلك!
عضو نشيط للغاية
لقد قمت بفتح أكثر من 100 موضوعا في المنتدى
المحبوب الحقيقي للأعضاء
لقد حصلت على أكثر من 100 إعجابا على مشاركاتك .. يبدو أن أعضائنا يحبونك حقًا!
الخميس 13 يونيو - 16:37
بسم الله الرحمن الرحيم
بعد أن أنهينا سابقا الجزء الأول من الموضوع نستكمل اليوم أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أحاديث التوبة مع شرح كل منهم
وكما ذكرنا سابقا سيتم تقسيم الموضوع لأكثر من جزء وكل واحد في موضوع منفصل وسيتم ربطهم في نهاية كل موضوع للتذكير بالأجزاء الأخرى
نبدأ بالجزء الثالث والأخير من الموضوع:
12- عن عبدِ الله بن كعبِ بنِ مالكٍ، وكان قائِدَ كعبٍ رضي الله عنه مِنْ بَنِيهِ حِينَ عمِيَ، قَالَ: سَمِعتُ كَعْبَ بنَ مالكٍ رضي الله عنه يُحَدِّثُ بحَديثهِ حينَ تَخلَّفَ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في غَزْوَةِ تَبُوكَ.
قَالَ كعبٌ: لَمْ أتَخَلَّفْ عَنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في غَزْوَةٍ غزاها قط إلا في غزوة تَبُوكَ، غَيْرَ أنّي قَدْ تَخَلَّفْتُ في غَزْوَةِ بَدْرٍ، ولَمْ يُعَاتَبْ أَحَدٌ تَخَلَّفَ عَنْهُ؛ إِنَّمَا خَرَجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم والمُسْلِمُونَ يُريدُونَ عِيرَ قُرَيْشٍ حَتَّى جَمَعَ الله تَعَالَى بَيْنَهُمْ وبَيْنَ عَدُوِّهمْ عَلَى غَيْر ميعادٍ.
ولَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لَيلَةَ العَقَبَةِ حينَ تَوَاثَقْنَا عَلَى الإِسْلامِ، وما أُحِبُّ أنَّ لي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ، وإنْ كَانَتْ بدرٌ أذْكَرَ في النَّاسِ مِنْهَا.
وكانَ مِنْ خَبَري حينَ تَخَلَّفْتُ عَنْ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في غَزْوَةِ تَبُوكَ أنِّي لم أكُنْ قَطُّ أَقْوى ولا أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عنْهُ في تِلكَ الغَزْوَةِ، وَالله ما جَمَعْتُ قَبْلَهَا رَاحِلَتَيْنِ قَطُّ حَتَّى جَمَعْتُهُمَا في تِلْكَ الغَزْوَةِ وَلَمْ يَكُنْ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُريدُ غَزْوَةً إلاَّ وَرَّى بِغَيرِها حَتَّى كَانَتْ تلْكَ الغَزْوَةُ، فَغَزَاها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في حَرٍّ شَديدٍ، واسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا وَمَفَازًا، وَاستَقْبَلَ عَدَدًا كَثِيرًا، فَجَلَّى للْمُسْلِمينَ أمْرَهُمْ ليتَأهَّبُوا أُهْبَةَ غَزْوِهمْ فأَخْبرَهُمْ بوَجْهِهِمُ الَّذِي يُريدُ، والمُسلِمونَ مَعَ رسولِ الله كثيرٌ وَلَا يَجْمَعُهُمْ كِتَابٌ حَافِظٌ «يُريدُ بذلِكَ الدّيوَانَ»
قَالَ كَعْبٌ: فَقَلَّ رَجُلٌ يُريدُ أَنْ يَتَغَيَّبَ إلاَّ ظَنَّ أنَّ ذلِكَ سيخْفَى بِهِ ما لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْيٌ مِنَ الله، وَغَزا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم تِلْكَ الغَزوَةَ حِينَ طَابَت الثِّمَارُ وَالظِّلالُ، فَأنَا إلَيْهَا أصْعَرُ، فَتَجَهَّزَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وَالمُسْلِمُونَ مَعَهُ وطَفِقْتُ أغْدُو لكَيْ أتَجَهَّزَ مَعَهُ فأرْجِعُ وَلَمْ أقْضِ شَيْئًا، وأقُولُ في نفسي: أنَا قَادرٌ عَلَى ذلِكَ إِذَا أَرَدْتُ، فَلَمْ يَزَلْ يَتَمادى بي حَتَّى اسْتَمَرَّ بالنَّاسِ الْجِدُّ، فأصْبَحَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم غَاديًا والمُسْلِمُونَ مَعَهُ وَلَمْ أقْضِ مِنْ جِهَازي شَيْئًا، ثُمَّ غَدَوْتُ فَرَجَعْتُ وَلَمْ أقْضِ شَيئًا، فَلَمْ يَزَلْ يَتَمَادَى بي حَتَّى أسْرَعُوا وتَفَارَطَ الغَزْوُ، فَهَمَمْتُ أَنْ أرْتَحِلَ فَأُدْرِكَهُمْ، فَيَا لَيْتَني فَعَلْتُ، ثُمَّ لم يُقَدَّرْ ذلِكَ لي، فَطَفِقْتُ إذَا خَرَجْتُ في النَّاسِ بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَحْزُنُنِي أنِّي لا أرَى لي أُسْوَةً، إلاّ رَجُلًا مَغْمُوصًا عَلَيْهِ في النِّفَاقِ، أوْ رَجُلًا مِمَّنْ عَذَرَ اللهُ تَعَالَى مِنَ الضُّعَفَاءِ، وَلَمْ يَذْكُرْنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَلَغَ تَبُوكَ، فَقَالَ وَهُوَ جَالِسٌ في القَوْمِ بِتَبُوكَ: «ما فَعَلَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ؟» فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ: يا رَسُولَ اللهِ، حَبَسَهُ بُرْدَاهُ والنَّظَرُ في عِطْفَيْهِ.
فَقَالَ لَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رضي الله عنه: بِئْسَ مَا قُلْتَ! واللهِ يا رَسُولَ اللهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ إلاَّ خَيْرًا، فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
فَبَيْنَا هُوَ عَلى ذَلِكَ رَأى رَجُلًا مُبْيِضًا يَزُولُ بِهِ السَّرَابُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «كُنْ أَبَا خَيْثَمَةَ»، فَإذَا هُوَ أبُو خَيْثَمَةَ الأنْصَارِيُّ وَهُوَ الَّذِي تَصَدَّقَ بِصَاعِ التَّمْرِ حِيْنَ لَمَزَهُ المُنَافِقُونَ.
قَالَ كَعْبٌ: فَلَمَّا بَلَغَنِي أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ تَوَجَّهَ قَافِلًا مِنْ تَبُوكَ حَضَرَنِي بَثِّي، فَطَفِقْتُ أتَذَكَّرُ الكَذِبَ وأقُولُ: بِمَ أخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ غَدًا؟ وأسْتَعِيْنُ عَلى ذَلِكَ بِكُلِّ ذِي رأْيٍ مِنْ أهْلِي، فَلَمَّا قِيْلَ: إنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قّدْ أظَلَّ قَادِمًا، زَاحَ عَنّي البَاطِلُ حَتَّى عَرَفْتُ أَنِّي لَنْ أَنْجُوَ مِنْهُ بِشَيءٍ أَبَدًا، فَأجْمَعْتُ صدْقَهُ وأَصْبَحَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم قَادِمًا، وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالمَسْجِدِ فَرَكَعَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ، فَلَمَّا فَعَلَ ذلِكَ جَاءهُ المُخَلَّفُونَ يَعْتَذِرونَ إِلَيْه ويَحْلِفُونَ لَهُ، وَكَانُوا بِضْعًا وَثَمانينَ رَجُلًا، فَقَبِلَ مِنْهُمْ عَلانِيَتَهُمْ وَبَايَعَهُمْ واسْتَغْفَرَ لَهُمْ وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إِلى الله تَعَالَى، حَتَّى جِئْتُ، فَلَمَّا سَلَّمْتُ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ المُغْضَبِ.
ثُمَّ قَالَ: «تَعَالَ»، فَجِئْتُ أمْشي حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فقالَ لي: «مَا خَلَّفَكَ؟ ألَمْ تَكُنْ قَدِ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ؟» قَالَ: قُلْتُ: يَا رسولَ الله، إنّي والله لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أهْلِ الدُّنْيَا لَرَأيتُ أنِّي سَأخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ بِعُذْرٍ؛ لقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلًا، ولَكِنِّي والله لَقَدْ عَلِمْتُ لَئِنْ حَدَّثْتُكَ اليوم حَدِيثَ كَذبٍ تَرْضَى به عنِّي لَيُوشِكَنَّ الله أن يُسْخِطَكَ عَلَيَّ، وإنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدقٍ تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ إنّي لأَرْجُو فِيهِ عُقْبَى الله عز وجل والله ما كَانَ لي مِنْ عُذْرٍ، واللهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى وَلَا أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ.
قَالَ: فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أمَّا هَذَا فقَدْ صَدَقَ، فَقُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللهُ فيكَ».
وَسَارَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي سَلِمَة فاتَّبَعُوني فَقالُوا لِي: واللهِ مَا عَلِمْنَاكَ أذْنَبْتَ ذَنْبًا قَبْلَ هذَا لَقَدْ عَجَزْتَ في أَنْ لا تَكونَ اعتَذَرْتَ إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بما اعْتَذَرَ إليهِ المُخَلَّفُونَ، فَقَدْ كَانَ كَافِيكَ ذَنْبَكَ اسْتِغْفَارُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَكَ.
قَالَ: فَوالله ما زَالُوا يُؤَنِّبُونَنِي حَتَّى أَرَدْتُّ أَنْ أرْجعَ إِلَى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فأُكَذِّبَ نَفْسِي، ثُمَّ قُلْتُ لَهُمْ: هَلْ لَقِيَ هذَا مَعِيَ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ، لَقِيَهُ مَعَكَ رَجُلانِ قَالَا مِثْلَ مَا قُلْتَ، وَقيلَ لَهُمَا مِثْلَ مَا قيلَ لَكَ، قَالَ: قُلْتُ: مَنْ هُما؟ قَالُوا: مُرَارَةُ بْنُ الرَّبيع الْعَمْرِيُّ، وهِلَالُ ابنُ أُمَيَّةَ الوَاقِفِيُّ؟ قَالَ: فَذَكَرُوا لِي رَجُلَينِ صَالِحَينِ قَدْ شَهِدَا بَدْرًا فيهِما أُسْوَةٌ، قَالَ: فَمَضَيْتُ حِينَ ذَكَرُوهُما لِي.
ونَهَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَنْ كَلامِنا أيُّهَا الثَّلاثَةُ مِنْ بَيْنِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ، فاجْتَنَبَنَا النَّاسُ - أوْ قَالَ: تَغَيَّرُوا لَنَا - حَتَّى تَنَكَّرَتْ لي في نَفْسي الأَرْض، فَمَا هِيَ بالأرْضِ الَّتي أعْرِفُ، فَلَبِثْنَا عَلَى ذلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً.
فَأمّا صَاحِبَايَ فَاسْتَكَانا وقَعَدَا في بُيُوتِهِمَا يَبْكيَان.
وأمَّا أنَا فَكُنْتُ أشَبَّ الْقَومِ وأجْلَدَهُمْ فَكُنْتُ أخْرُجُ فَأشْهَدُ الصَّلَاةَ مَعَ المُسْلِمِينَ، وأطُوفُ في الأَسْوَاقِ وَلا يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ، وَآتِي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فأُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَهُوَ في مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصَّلاةِ، فَأَقُولُ في نَفسِي: هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْه برَدِّ السَّلام أَمْ لَا؟ ثُمَّ أُصَلِّي قَريبًا مِنْهُ وَأُسَارِقُهُ النَّظَرَ، فَإِذَا أقْبَلْتُ عَلَى صَلاتِي نَظَرَ إلَيَّ وَإِذَا الْتَفَتُّ نَحْوَهُ أعْرَضَ عَنِّي، حَتَّى إِذَا طَال ذلِكَ عَلَيَّ مِنْ جَفْوَةِ المُسْلِمينَ مَشَيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ جِدارَ حائِط أبي قَتَادَةَ وَهُوَ ابْنُ عَمِّي وأَحَبُّ النَّاس إِلَيَّ، فَسَلَّمْتُ عَلَيهِ فَوَاللهِ مَا رَدَّ عَليَّ السَّلامَ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا قَتَادَةَ، أنْشُدُكَ بالله هَلْ تَعْلَمُنِي أُحِبُّ الله وَرَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم؟ فَسَكَتَ، فَعُدْتُ فَنَاشَدْتُهُ فَسَكَتَ، فَعُدْتُ فَنَاشَدْتُهُ، فَقَالَ: اللهُ ورَسُولُهُ أَعْلَمُ.
فَفَاضَتْ عَيْنَايَ، وَتَوَلَّيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ الجِدَارَ، فَبَيْنَا أَنَا أمْشِي في سُوقِ الْمَدِينة إِذَا نَبَطِيٌّ مِنْ نَبَطِ أهْلِ الشَّام مِمّنْ قَدِمَ بالطَّعَامِ يَبيعُهُ بِالمَدِينَةِ يَقُولُ: مَنْ يَدُلُّ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ؟ فَطَفِقَ النَّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ إلَيَّ حَتَّى جَاءنِي فَدَفَعَ إِلَيَّ كِتَابًا مِنْ مَلِكِ غَسَّانَ، وَكُنْتُ كَاتبًا فَقَرَأْتُهُ فإِذَا فِيهِ: أَمَّا بَعْدُ، فإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنا أنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللهُ بدَارِ هَوانٍ وَلَا مَضْيَعَةٍ، فَالْحَقْ بنَا نُوَاسِكَ، فَقُلْتُ حِينَ قَرَأْتُهَا: وَهَذِهِ أَيضًا مِنَ البَلاءِ، فَتَيَمَّمْتُ بهَا التَّنُّورَ فَسَجَرْتُهَا، حَتَّى إِذَا مَضَتْ أَرْبَعُونَ مِنَ الْخَمْسينَ وَاسْتَلْبَثَ الْوَحْيُ إِذَا رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يَأتِيني، فَقالَ: إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَأمُرُكَ أَنْ تَعْتَزِلَ امْرَأتَكَ، فَقُلْتُ: أُطَلِّقُهَا أمْ مَاذَا أفْعَلُ؟ فَقالَ: لَا، بَلِ اعْتَزِلْهَا فَلَا تَقْرَبَنَّهَا، وَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبَيَّ بِمِثْلِ ذلِكَ.
فَقُلْتُ لامْرَأتِي: الْحَقِي بِأهْلِكِ فَكُوني عِنْدَهُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللهُ في هَذَا الأمْرِ.
فَجَاءتِ امْرَأةُ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ لَهُ: يَا رَسُولَ الله، إنَّ هِلَالَ بْنَ أمَيَّةَ شَيْخٌ ضَائِعٌ لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ، فَهَلْ تَكْرَهُ أَنْ أخْدُمَهُ؟ قَالَ: «لَا، وَلَكِنْ لَا يَقْرَبَنَّكِ» فَقَالَتْ: إِنَّهُ واللهِ ما بِهِ مِنْ حَرَكَةٍ إِلَى شَيْءٍ، وَوَالله مَا زَالَ يَبْكِي مُنْذُ كَانَ مِنْ أمْرِهِ مَا كَانَ إِلَى يَومِهِ هَذَا.
فَقَالَ لي بَعْضُ أهْلِي: لَو اسْتَأْذَنْتَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في امْرَأَتِكَ فَقَدْ أَذِن لاِمْرَأةِ هلَال بْنِ أمَيَّةَ أَنْ تَخْدُمَهُ؟ فَقُلْتُ: لَا أسْتَأذِنُ فيها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وَمَا يُدْرِيني مَاذَا يقُول رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إِذَا اسْتَأْذَنْتُهُ، وَأَنَا رَجُلٌ شَابٌ! فَلَبِثْتُ بِذَلِكَ عَشْرَ لَيَالٍ فَكَمُلَ لَنا خَمْسُونَ لَيْلَةً مِنْ حِينَ نُهِيَ عَنْ كَلَامِنا، ثُمَّ صَلَّيْتُ صَلَاةَ الْفَجْرِ صَبَاحَ خَمْسِينَ لَيْلَةً عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِنَا، فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عَلَى الْحالِ الَّتي ذَكَرَ الله تَعَالَى مِنَّا، قَدْ ضَاقَتْ عَلَيَّ نَفْسي وَضَاقَتْ عَلَيَّ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، سَمِعْتُ صَوْتَ صَارِخٍ أوفَى عَلَى سَلْعٍ يَقُولُ بِأعْلَى صَوتِهِ: يَا كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ أبْشِرْ، فَخَرَرْتُ سَاجِدًا، وَعَرَفْتُ أنَّهُ قَدْ جَاءَ فَرَجٌ.
فآذَنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم النَّاسَ بِتَوْبَةِ الله عز وجل عَلَيْنَا حِينَ صَلَّى صَلاةَ الفَجْر فَذَهَبَ النَّاسُ يُبَشِّرُونَنَا، فَذَهَبَ قِبَلَ صَاحِبَيَّ مُبَشِّرونَ وَرَكَضَ رَجُلٌ إِلَيَّ فَرَسًا وَسَعَى سَاعٍ مِنْ أسْلَمَ قِبَلِي، وَأَوْفَى عَلَى الْجَبَلِ، فَكانَ الصَّوْتُ أسْرَعَ مِنَ الفَرَسِ، فَلَمَّا جَاءني الَّذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ يُبَشِّرُني نَزَعْتُ لَهُ ثَوْبَيَّ فَكَسَوْتُهُمَا إيَّاهُ بِبشارته، وَاللهِ مَا أمْلِكُ غَيْرَهُمَا يَوْمَئِذٍ، وَاسْتَعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فَلَبسْتُهُما، وَانْطَلَقْتُ أتَأمَّمُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَتَلَقَّاني النَّاسُ فَوْجًا فَوْجًا يُهنِّئونَني بالتَّوْبَةِ وَيَقُولُونَ لِي: لِتَهْنِكَ تَوْبَةُ الله عَلَيْكَ.
حَتَّى دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ حَوْلَه النَّاسُ، فَقَامَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ رضي الله عنه يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَني وَهَنَّأَنِي، والله مَا قَامَ رَجُلٌ مِنَ المُهَاجِرينَ غَيرُهُ - فَكَانَ كَعْبٌ لَا يَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ.
قَالَ كَعْبٌ: فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنَ السُّرُور: «أبْشِرْ بِخَيْرِ يَومٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُذْ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ» فَقُلْتُ: أمِنْ عِنْدِكَ يَا رَسُول الله أَمْ مِنْ عِندِ الله؟ قَالَ: «لَا، بَلْ مِنْ عِنْدِ الله عز وجل»، وَكَانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ حَتَّى كَأَنَّ وَجْهَهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ وَكُنَّا نَعْرِفُ ذلِكَ مِنْهُ، فَلَمَّا جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ قُلْتُ: يَا رسولَ الله، إنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللهِ وَإِلَى رَسُولهِ.
فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أمْسِكَ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ».
فقلتُ: إِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الَّذِي بِخَيبَر.
وَقُلْتُ: يَا رسولَ الله، إنَّ الله تَعَالَى إِنَّمَا أنْجَانِي بالصِّدْقِ، وإنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ لا أُحَدِّثَ إلاَّ صِدْقًا مَا بَقِيتُ، فوَالله مَا عَلِمْتُ أَحَدًا مِنَ المُسْلِمينَ أبْلاهُ الله تَعَالَى في صِدْقِ الحَدِيثِ مُنْذُ ذَكَرْتُ ذلِكَ لِرسولِ الله صلى الله عليه وسلم أحْسَنَ مِمَّا أبْلانِي الله تَعَالَى، واللهِ مَا تَعَمَّدْتُ كِذْبَةً مُنْذُ قُلْتُ ذلِكَ لِرسولِ الله صلى الله عليه وسلم إِلَى يَومِيَ هَذَا، وإنِّي لأرْجُو أَنْ يَحْفَظَنِي الله تَعَالَى فيما بَقِيَ، قَالَ: فأَنْزَلَ الله تَعَالَى: ﴿ لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ ﴾ حَتَّى بَلَغَ: ﴿ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيم وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ﴾ حَتَّى بَلَغَ: ﴿ اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ ( التوبة: 117 - 119 ) قَالَ كَعْبٌ: واللهِ ما أنْعَمَ الله عَليَّ مِنْ نعمةٍ قَطُّ بَعْدَ إذْ هَدَاني اللهُ للإِسْلامِ أَعْظَمَ في نَفْسِي مِنْ صِدقِي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أَنْ لا أكونَ كَذَبْتُهُ، فَأَهْلِكَ كما هَلَكَ الَّذينَ كَذَبُوا؛ إنَّ الله تَعَالَى قَالَ للَّذِينَ كَذَبُوا حِينَ أنْزَلَ الوَحْيَ شَرَّ مَا قَالَ لأَحَدٍ، فقال الله تَعَالَى: ﴿ سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴾ ( التوبة: 95 - 96 ) قَالَ كَعْبٌ: كُنّا خُلّفْنَا أيُّهَا الثَّلَاثَةُ عَنْ أمْرِ أُولئكَ الذينَ قَبِلَ مِنْهُمْ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حِينَ حَلَفُوا لَهُ فَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ وأرجَأَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أمْرَنَا حَتَّى قَضَى الله تَعَالَى فِيهِ بذِلكَ.
قَالَ الله تَعَالَى: ﴿ وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا ﴾ وَليْسَ الَّذِي ذَكَرَ مِمَّا خُلِّفْنَا تَخلُّفُنَا عن الغَزْو، وإنَّمَا هُوَ تَخْلِيفُهُ إيّانا وإرْجَاؤُهُ أمْرَنَا عَمَّنْ حَلَفَ لَهُ واعْتَذَرَ إِلَيْهِ فقبِلَ مِنْهُ. مُتَّفَقٌ عليه.
وفي رواية: أنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ في غَزْوَةِ تَبْوكَ يَومَ الخَميسِ وكانَ يُحِبُّ أَنْ يخْرُجَ يومَ الخمِيس.
وفي رواية: وكانَ لَا يقْدمُ مِنْ سَفَرٍ إلاَّ نَهَارًا في الضُّحَى، فإِذَا قَدِمَ بَدَأَ بالمَسْجِدِ فَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَلَسَ فِيهِ.
النصف الثاني من شرح الحديث
يقول رضي الله عنه: إنه لما بلغه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رجع قافلًا من الغزو، بدأ يفكِّر ماذا يقول لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا رجع؟ يريد أن يتحدث بحديث وإن كان كذبًا، من أجل أن يعذره النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه، وجعل يشاور ذوي الرأي من أهله، ماذا يقول، ولكن يقول رضي الله عنه: فلما بلغ النبي - عليه الصلاة والسلام - المدينة ذهب عنه كل ما جمعه من الباطل، وعزم على أن يبيِّن للنبي -صلى الله عليه وسلم- الحق؛ يقول: فقدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة ودخل المسجد، وكان من عادته وسنته أنه إذا قدم بلده فأول ما يفعل أن يصلي في المسجد - عليه الصلاة والسلام - وهكذا أمر جابرًا - رضي الله عنه - كما سأذكره إن شاء الله، فدخل المسجد، وصلى، وجلس للناس، فجاءه المخلَّفون الذين تخلفوا من غير عذر من المنافقين، وجعلوا يحلفون له إنهم معذورون، فيبايعهم ويستغفر لهم، ولكن ذلك لا يفيدهم - والعياذ بالله - لأن الله قال: ﴿ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ﴾ ( التوبة: 80 )، فيقول: أمَّا أنَا فعزمت أن أَصْدُق النبي - عليه الصلاة والسلام - وأُخبرَه بالصدق، فدخلت المسجد، فسلمت عليه، فتبسم تبسم المغضب؛ أي: الذي غير راض عني - ثم قال: «تَعَالَ»، فلما دنوت منه، قال لي: «مَا خَلَّفَكَ؟».
فقال رضي الله عنه: يا رسول الله، إني لم أتخلف لعذر، وما جمعت راحلتين قبل غزوتي هذه، وإني لو جلست عند أحد من ملوك الدنيا لخرجت منه بعذر، فلقد أوتيت جدلًا؛ يعني: لو أني جلست عند شخص من الملوك لعرفت كيف أتخلص منه؛ لأن الله أعطاني جدلًا - ولكني لا أحدثك اليوم حديثًا ترضى به عني فيوشك أن يسخط الله عليَّ في ذلك. انظر إلى الإيمان! قال: لا يمكن أن أحدثك بالكذب، ولو حدثتك بالكذب، ورضيت عني اليوم، فإنه يوشك أن يسخط الله عليَّ. فأخبر النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- بالصدق، فأجَّله. يقول كعب: إنه أتى إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصدقه القول، وأخبره أنه لا عذر له لا في بدنه ولا في ماله، بل إنه لم يجمع راحلتين في غزوة قبل هذه.
فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- : «أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ»؛ ويكفي له فخرًا أن وصفه النبي - عليه الصلاة والسلام - بالصدق: «أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ، فَاذْهَبْ حَتَّى يَقْضِيَ اللهُ فِيكَ مَا شَاءَ»؛ فذهب الرجل مستسلمًا لأمر الله عز وجل مؤمنًا بالله، وأنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
فلحقه قوم من بني سلمه، من قومه، وجعلوا يُزيِّنون له أن يرجع عن إقراره، وقالوا له: إنك لم تُذنب ذنبًا قبل هذا؛ يعني: مما تخلَّفْتَ به عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويكفيك أن يستغفر لك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإذا استغفر لك الرسول -صلى الله عليه وسلم- غفر الله لك، فارجع كذب نفسك؛ قل: إني معذور، حتى يستغفر لك الرسول - عليه الصلاة والسلام - فيمن استغفر لهم ممن جاءوا يعتذرون إليه، فهَمَّ أن يفعل - رضي الله عنه - ولكن الله سبحانه أنقذه وكتب له هذه المنقبة العظيمة التي تتلى في كتاب الله إلى يوم القيامة.
فسأل قومه: هل أحد صنع مثلما صنعت؟ قالوا: نعم، هلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، قالا مثلما قلت، وقيل لهما مثلما قيل لك. يقول: «فذكروا لي رجلين صالحين شهدا بدرًا لي فيهما أسوة». أحيانًا يقيِّض الله للإنسان ما يجعله يدع الشر اقتداء بغيره وتأسيًا به. فهو- رضي الله عنه - لَمَّا ذُكِر له هذان الرجلان - وهما من خيار عباد الله من الذين شهدوا بدرًا - فقال: «لي فيهما أسوة، فمضيتُ»؛ أي: لم يرجع إلى النبي عليه الصلاة والسلام.
فأمر النبي - عليه الصلاة والسلام- الناس أن يهجروهم فلا يكلِّموهم؛ فهجرهم المسلمون، ولكنهم بعد ذلك صاروا يمشون وكأنهم بلا عقول، قد ذهلوا، وتنكرت لهم الأرض، فما هي بالأرض التي كانوا يعرفونها؛ لأنهم يمشون إن سلَّموا لا يُرَد عليهم السلام، وإن قابلهم أحد لم يبدأهم بالسلام، وحتى النبي- عليه الصلاة والسلام- وهو أحسن الناس خلقًا - لا يسلِّم عليهم السلام العادي. يقول كعب: «كنت أحضر وأسلِّم على النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا أدري: أَحَرَّك شفتيه بِرَدِّ السلام أم لا».
هذا وهو النبي - عليه الصلاة والسلام - وما ظنك برجل يُهجر في هذا المجتمع الإسلامي الذي هو خير القرون؟ إنها ستضيق عليه الأرض، وفعلًا ضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، وبقوا على هذه الحال مدة خمسين يومًا؛ أي: شهرًا كاملًا وعشرين يومًا، والناس قد هجروهم، فلا يُسلِّمون عليهم. ولا يردون السلام إذا سلَّموا، وكأنهم في الناس إِبِلٌ جُرْبٌ لا يقربهم أحد. فضاقت عليهم الأمور، وصعبت عليهم الأحوال، وفروا إلى الله عز وجل، ولكن مع ذلك لم يكن كعب بن مالك يدع الصلاة مع الجماعة.
فكان يحضر ويسلم على النبي - عليه الصلاة والسلام - ولكن في آخر الأمر ربما يتخلف عن الصلوات لما يجد في نفسه من الضيق والحرج؛ لأنه يخجل أن يأتي إلى قوم يصلي معهم وهم لا يكلمونه أبدًا، لا بكلمة طيبة ولا بكلمة تأنيب، فتركوهم بالكلية، فضاقت عليهم الأرض، وبقوا على هذه الحالة خمسين ليلة تامة، ولما تمت لهم أربعون ليلة أرسل إليهم النبي- عليه الصلاة والسلام - أن يعتزلوا نساءهم. إلى هذا الحد، فرَّق بينهم وبين نسائهم.
وما ظنك برجل مثل كعب بن مالك وهو شاب يُعزل عن امرأته؟ أمر عظيم، ولكن مع ذلك لما جاءهم رسول الرسول - عليه الصلاة والسلام - وقال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- يأمرك أن تعتزل امرأتك. قال: أُطلِّقها أم ماذا؟ لأنه لو قال له: طلِّقها، لطلَّقها بكل سهولة؛ طاعة لله ورسوله؛ فسأل، قال: أُطلِّقها أم ماذا؟ فقال له رسول الرسول: إن الرسول - عليه الصلاة والسلام - يأمرك أن تعتزل أهلك. وبقي على ظاهر اللفظ؛ حتى الصحابي الذي أُرسل ما حرَّف النص، لا معني ولا لفظًا، قال هكذا، قال: ولا أدري.
وهذا من أدب الصحابة - رضي الله عنهم - ما قال: أظن أنه يريد أن تطلقها، ولا: أظن أنه يريد أن لا تطلقها! ما قال شيئًا، بل قال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال هذا، فقال كعب لزوجته: الحقي بأهلك. فلحقت بأهلها. «فأما صاحباي فاستكانا في بيوتهما يبكيان»؛ لأنهما لا يستطيعان أن يمشيا في الأسواق، والناس قد هجروهم لا يلتفت إليهم أحد، ولا يسلِّم عليهم أحد، وإذا سلَّموا لا يُرَدُّ عليهم السلام، فعجزوا عن تحمل هذه الحال، فبقيا في بيوتهما يبكيان.
يقول: «وأما أنا فكنت أشب القوم، وأجلدهم»؛ أشبهم: أقواهم. وأجلدهم: أصبرهم؛ لأنه أشب منهم، أصغر منهم سنًّا، فكان يشهد صلاة الجماعة مع المسلمين، ويطوف بأسواق المدينة لا يكلمه أحد، لا يكلمه أحد؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بهجرهم، وكان الصحابة- رضي الله عنهم - أطوع الناس لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
يقول: «وكنت آتي المسجد فأصلي، وأسلم على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو جالس للناس بعد الصلاة، فأقول: هل حَرَّك شفتيه برد السلام أم لا»؛ أي: ما يرد عليه ردًّا يُسمع، هذا مع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس خلقًا، ولكن امتثالًا، لَمَّا أوحى الله إليه أن يهجر هؤلاء القوم، هجرهم.
ويقول: كنت أصلي وأسارق النبي -صلى الله عليه وسلم- النظر، يعني: أنظر إليه أحيانًا وأنا أصلي، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليَّ، وإذا التفت إليه أعرض عني. كل هذا من شدة الهجر. يقول: «فبينما أنا أمشي ذات يوم في أسواق المدينة، وطال عليَّ جفوةُ الناس، تسوَّرت حائطًا لأبي قتادة رضي الله عنه»، تسوَّره: دخله من فوق الجدار من دون الباب، وكأن الباب مغلق. والعلم عند الله. يقول: «فسلمت عليه، فوالله ما ردَّ على السلام»، وهو ابن عمه، وأحب الناس إليه، ومع ذلك لم يَرُدَّ عليه السلام، مع أن الرجل كان مَجْفيًّا من الناس، منبوذًا، لا يكلَّم، ولا يسلَّم عليه، ولا يُرَدُّ عليه السلام، ومع ذلك لم يعطف عليه ابن عمه أبو قتادة.
كل هذا طاعة لله ورسوله؛ لأن الصحابة - رضي الله عنهم- لا تأخذهم في الله لومة لائم، ولا يحابون أحدًا في دين الله، ولو كان أقرب الناس إليهم، فقال له: أنشدك الله، هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ فلم يرد عليه. مرتين يناشده مناشدة؛ هل يعلم أنه يحب الله ورسوله أم لا؟ وأبوقتادة يدري، ويعلم أن كعب بن مالك يحب الله ورسوله.
فلما رد عليه الثالثة، وقال: أنشدك الله هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ فقال: الله ورسوله أعلم. لم يكلمه، فلم يقل: نعم؟ ولا قال: لا. يقول: ففاضت عيناي؛ أي: بكى - رضي الله عنه - أن رجلًا - ابن عمه - أحب الناس إليه لا يكلمه مع هذه المناشدة العظيمة. مع أنها - أيضًا - مسالة تعبُّديَّة؛ لأن قوله: أنشدك الله، هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ طلب شهادة، ومع ذلك لم يشهد له، مع أنه يعلم أنه يحب الله ورسوله؛ ففاضت عيناه. وتسور البستان؛ أي: خرج إلى السوق، فبينما هو يمشي إذا برجل نَبَطِي من أنباط الشام - والنبطي: الذي ليس بعربي، ولا بعجمي، وسموا بذلك لأنهم كانوا يخرجون في البراري يستنبطون الماء - يقول: من يدلني على كعب بن مالك!
انظر إلى أهل الشر ينتهزون الفرص!
فعندما قال: من يدلني علي كعب بن مالك؟ قلت: أنا هو، فأعطاني الورقة، وكنت كاتبًا؛ لأن الكُتَّاب في ذلك العهد قليلون جدًا. يقول: «فقرأت الكتاب، فإذا فيه: أما بعد، فقد بلغنا أن صاحبك جفاك - يعني: الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان هذا الملك، ملك غسان كافرًا - وإنك لست بدار هوان ولا مضيعة؛ يعني: تعال إلينا نواسك بأموالنا، وربما نواسيك بملكنا. ولكن الرجل رجل مؤمن بالله تعالى ورسوله، ومحب لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم. قال: وهذه من البلاء؛ يعني: هذا من الامتحان، وصدق - رضي الله عنه - رجل مجفوٌّ لا يُكلَّم، مهجور منبوذ حتى من أقرب الناس إليه، لو كان في قلبه ضعف إيمان لا نتهز الفرصة بدعوة هذا الملك، وذهب إليه، لكن عنده إيمان راسخ؛ يقول: قلت: «هذه من البلاء»، ثم ذهب إلى التنور فسجره فيه؛ يعني: أوقدها بالتنور.
وإنما أوقدها في التنور ولم يجعلها معه لئلَّا توسوس له نفسه بعد ذلك أن يذهب إلى هذا الملك، فأتلفها حتى ييأس منها، ولا يحاول أن يجعلها حجة يذهب بها إلى هذا الملك، ثم بقي على ذلك مدة. ففي هذه القطعة من الحديث دليل على جواز التخلف عن الجماعة إذا كان الإنسان مهجورًا منبوذًا، وعجزت نفسه أن تتحمل هذا، كما فعل صاحبا كعب بن مالك رضي الله عنهم. لأنه لا شك أنه من الضيق والحرج أن يأتي الإنسان إلى المسجد مع الجماعة لا يسلَّم عليه، ولا يُرَد سلامه، ومهجور ومنبوذ، هذا تضيق به نفسه ذرعًا ولا يستطيع، وهذا عذر كما قاله العلماء. فإن هذا الملك - ملك غسان- انتهز الفرصة في كعب بن مالك - رضي الله عنه- يدعوه إلى الضلال لعله يرجع عن دينه إلى دين هذا الملك بسبب هذا الضيق.
يقول رضي الله عنه: «فلما تمت لنا أربعون ليلة»؛ يعني: شهر وعشرة أيام، وكان الوحي قد استلبث فلم ينزل كل هذه المدة، وهذه من حكمة الله عز وجل في الأمور الكبيرة العظيمة، يستلبث الوحي ولا ينزل، كما في هذه القصة، وكما في قصة الإفك حين انقطع الوحي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم. وهذا من حكمة الله عز وجل حتى يتشوف الناس إلى الوحي ويتشوقوا إليه: ماذا سيُنزل ربُّ العالمين عز وجل؟ فبقي الوحي أربعين ليلة ما نزل، فلما تمت أربعون ليلة أرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى كعب وصاحبيه هلال بن أمية، ومرارة بن الربيع - رضي الله عنهم- أن يعتزلوا نساءهم.
وجاءت زوجة هلال بن أمية إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأخبرته بأنه في حاجة إليها لتخدمه؛ لأنه ليس له خادم، فأذن لها النبي -صلى الله عليه وسلم- بشرط أن لا يقربها، فقالت: «إنه والله ما به من حركة إلى شيء»؛ يعني: أنه ليس له شهوة في النساء، وأنه يبكي- رضي الله عنه - منذ أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بهجرهم إلى يومه هذا، أربعون يومًا يبكي؛ لأنه ما يدري ماذا تكون النهاية.
يقول رضي الله عنه: «فلما مضى عشر ليال بعد هذا، وكنت ذات يوم أصلي الصبح على سطح بيت من بيوتنا»؛ لأنه كما مَرَّ كانوا - رضي الله عنهم- قد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، واستنكروا الأرض، واستنكروا الناس، يأتون إلى المسجد لا يكلمهم أحد، وإن سلموا لم يرد عليهم، وإن مر بهم أحد لم يسلِّم عليهم، ضاقت عليهم الأرض، فصار ذات يوم يصلي الصبح في بيته على سطحه، يقول: «فسمعت صارخًا يقول وهو على سلع - وهو جبل معروف في المدينة - أوفى عليه وصاح بأعلى صوته يقول: يا كعب بن مالك، أبشر، يا كعب بن مالك، أبشر».
يقول: «فخررت ساجدًا، وعرفت أنه قد جاء فرج»، وركب فارس من المسجد يؤم كعب بن مالك ليبشره، وذهب مبشرون إلى هلال بن أمية، ومرارة بن الربيع يبشرونهما بتوبة الله عليهما. فانظر إلى فرح المسلمين بعضهم مع بعض، كلٌّ يذهب يسعى ويركض من جهة. يقول: فجاء الصارخ، وجاء صاحب الفرس، فكانت البشرى للصارخ؛ لأن الصوت أسرع من الفرس، يقول: فأعطيته ثوبيَّ؛ الإزار والرداء، وليس يملك غيرهما، لكن استعار من أهله أو من جيرانه ثوبين، فلبسهما، وأعطى ثوبيه هذا الذي بشره. أعطاه كل ما يملك، لا يملك غير الثوبين، لكنها والله بشرى عظيمة، بشرى من الله سبحانه وتعالى عظيمة، أن يُنزل الله توبتهم ويمن عليهم بالتوبة.
ثم نزل متوجهًا إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- في المسجد، وإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجزاه الله عن أمته خيرًا - قد بشر الناس بعد صلاة الصبح بأن الله أنزل توبته على هؤلاء الثلاثة؛ لأنه يحب من أصحابه وأمته ان يتوبوا ويرجعوا إلى الله.
يقول: فذهبت أتأمم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعني: أقصده، فجعل الناس يلاقونني أفواجًا؛ يعني: جماعات، يهنئونه بتوبة الله عليه رضي الله عنه. هؤلاء القوم يحبون لإخوانهم ما يحبون لأنفسهم، فلم يحسدوهم على ما أنعم الله به عليهم من إنزال القرآن العظيم بتوبتهم، بل جعلوا يهنئونهم حتى دخل المسجد. يقول رضي الله عنه: «حتى دخلت المسجد وإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس وحوله أصحابه»، فقام إلى كعبٍ طلحةُ بنُ عبيد الله - رضي الله عنه - فصافحه وهنأه بتوبة الله عليه.
يقول: «والله ما قام إليَّ أحد من المهاجرين رجل غير طلحة»؛ فكان لا ينساها له، حيث قام ولاقاه وصافحه وهنأه، حتى وقف على النبي -صلى الله عليه وسلم- وإذا وجهه تبرق أساريره؛ لأنه- عليه الصلاة والسلام- سره أن يتوب الله على هؤلاء الثلاثة الذين صدقوا الله ورسوله، وأخبروا بالصدق عن إيمان، وحصل عليهم ما جرى من الأمر العظيم، من هجر الناس لهم خمسين يومًا، حتى نسائهم بعد الأربعين أمر الرسول - عليه الصلاة والسلام - أن يعتزلوهن.
ثم قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُذْ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ».
وصدق النبي -صلى الله عليه وسلم- خير يوم مر على كعب منذ ولدته أمه هو ذلك اليوم، لأن الله أنزل توبته عليه وعلى صاحبيه في قرآن يتلى، تكلم به رب العالمين عز وجل، وأنزله على محمد -صلى الله عليه وسلم- محفوظًا بواسطة جبريل، ومحفوظًا إلى يوم القيامة، ولا يوجد أحد سوى الأنبياء أو من ذكرهم الله في القرآن حُفظت قصته كما حفظت قصة كعب بن مالك وصاحبيه رضي الله عنهم. بقيت هذه القصة تتلى في كتاب في المحاريب وعلى المنابر وفي كل مكان، ومن قرأ هذه القصة فله بكل حرف عشر حسنات، فهذا اليوم لا شك أنه خير يوم مر على كعب منذ ولدته أمه.
فقال كعب: إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله؛ أي: يتخلى عنه ويجعله صدقة إلى الله ورسوله شأنه وتدبيره. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- : «أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ»؛ فأمسكه رضي الله عنه.
واستفدنا من الحديث فائدتين عظيمتين:
الفائدة الأولى: أن الإنسان لا ينبغي له أن يتأخر عن فعل الخير، بل لا بد أن يتقدم ولا يتهاون أو يتكاسل.
الفائدة الثانية: أن المنافقين يلمزون المؤمنين؛ إن تصدق المسلمون بكثير، قالوا: هؤلاء مراؤون، وإن قلَّلوا بحسب طاقتهم، قالوا: إن الله غني عن عملك وغني عن صاعك، كما سبق.
وإلى هنا ينتهي الجزء الثالث والأخير من موضوع من أحاديث التوبة
ولمن لم يراجع الجزء الأول والثاني لا تنسى قراءة
==> الجزء الأول من أحاديث التوبة
==> الجزء الثاني من أحاديث التوبة
==> النصف الأول من الجزء الثالث من أحاديث التوبة
بعد أن أنهينا سابقا الجزء الأول من الموضوع نستكمل اليوم أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أحاديث التوبة مع شرح كل منهم
وكما ذكرنا سابقا سيتم تقسيم الموضوع لأكثر من جزء وكل واحد في موضوع منفصل وسيتم ربطهم في نهاية كل موضوع للتذكير بالأجزاء الأخرى
نبدأ بالجزء الثالث والأخير من الموضوع:
12- عن عبدِ الله بن كعبِ بنِ مالكٍ، وكان قائِدَ كعبٍ رضي الله عنه مِنْ بَنِيهِ حِينَ عمِيَ، قَالَ: سَمِعتُ كَعْبَ بنَ مالكٍ رضي الله عنه يُحَدِّثُ بحَديثهِ حينَ تَخلَّفَ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في غَزْوَةِ تَبُوكَ.
قَالَ كعبٌ: لَمْ أتَخَلَّفْ عَنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في غَزْوَةٍ غزاها قط إلا في غزوة تَبُوكَ، غَيْرَ أنّي قَدْ تَخَلَّفْتُ في غَزْوَةِ بَدْرٍ، ولَمْ يُعَاتَبْ أَحَدٌ تَخَلَّفَ عَنْهُ؛ إِنَّمَا خَرَجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم والمُسْلِمُونَ يُريدُونَ عِيرَ قُرَيْشٍ حَتَّى جَمَعَ الله تَعَالَى بَيْنَهُمْ وبَيْنَ عَدُوِّهمْ عَلَى غَيْر ميعادٍ.
ولَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لَيلَةَ العَقَبَةِ حينَ تَوَاثَقْنَا عَلَى الإِسْلامِ، وما أُحِبُّ أنَّ لي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ، وإنْ كَانَتْ بدرٌ أذْكَرَ في النَّاسِ مِنْهَا.
وكانَ مِنْ خَبَري حينَ تَخَلَّفْتُ عَنْ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في غَزْوَةِ تَبُوكَ أنِّي لم أكُنْ قَطُّ أَقْوى ولا أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عنْهُ في تِلكَ الغَزْوَةِ، وَالله ما جَمَعْتُ قَبْلَهَا رَاحِلَتَيْنِ قَطُّ حَتَّى جَمَعْتُهُمَا في تِلْكَ الغَزْوَةِ وَلَمْ يَكُنْ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُريدُ غَزْوَةً إلاَّ وَرَّى بِغَيرِها حَتَّى كَانَتْ تلْكَ الغَزْوَةُ، فَغَزَاها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في حَرٍّ شَديدٍ، واسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا وَمَفَازًا، وَاستَقْبَلَ عَدَدًا كَثِيرًا، فَجَلَّى للْمُسْلِمينَ أمْرَهُمْ ليتَأهَّبُوا أُهْبَةَ غَزْوِهمْ فأَخْبرَهُمْ بوَجْهِهِمُ الَّذِي يُريدُ، والمُسلِمونَ مَعَ رسولِ الله كثيرٌ وَلَا يَجْمَعُهُمْ كِتَابٌ حَافِظٌ «يُريدُ بذلِكَ الدّيوَانَ»
قَالَ كَعْبٌ: فَقَلَّ رَجُلٌ يُريدُ أَنْ يَتَغَيَّبَ إلاَّ ظَنَّ أنَّ ذلِكَ سيخْفَى بِهِ ما لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْيٌ مِنَ الله، وَغَزا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم تِلْكَ الغَزوَةَ حِينَ طَابَت الثِّمَارُ وَالظِّلالُ، فَأنَا إلَيْهَا أصْعَرُ، فَتَجَهَّزَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وَالمُسْلِمُونَ مَعَهُ وطَفِقْتُ أغْدُو لكَيْ أتَجَهَّزَ مَعَهُ فأرْجِعُ وَلَمْ أقْضِ شَيْئًا، وأقُولُ في نفسي: أنَا قَادرٌ عَلَى ذلِكَ إِذَا أَرَدْتُ، فَلَمْ يَزَلْ يَتَمادى بي حَتَّى اسْتَمَرَّ بالنَّاسِ الْجِدُّ، فأصْبَحَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم غَاديًا والمُسْلِمُونَ مَعَهُ وَلَمْ أقْضِ مِنْ جِهَازي شَيْئًا، ثُمَّ غَدَوْتُ فَرَجَعْتُ وَلَمْ أقْضِ شَيئًا، فَلَمْ يَزَلْ يَتَمَادَى بي حَتَّى أسْرَعُوا وتَفَارَطَ الغَزْوُ، فَهَمَمْتُ أَنْ أرْتَحِلَ فَأُدْرِكَهُمْ، فَيَا لَيْتَني فَعَلْتُ، ثُمَّ لم يُقَدَّرْ ذلِكَ لي، فَطَفِقْتُ إذَا خَرَجْتُ في النَّاسِ بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَحْزُنُنِي أنِّي لا أرَى لي أُسْوَةً، إلاّ رَجُلًا مَغْمُوصًا عَلَيْهِ في النِّفَاقِ، أوْ رَجُلًا مِمَّنْ عَذَرَ اللهُ تَعَالَى مِنَ الضُّعَفَاءِ، وَلَمْ يَذْكُرْنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَلَغَ تَبُوكَ، فَقَالَ وَهُوَ جَالِسٌ في القَوْمِ بِتَبُوكَ: «ما فَعَلَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ؟» فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ: يا رَسُولَ اللهِ، حَبَسَهُ بُرْدَاهُ والنَّظَرُ في عِطْفَيْهِ.
فَقَالَ لَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رضي الله عنه: بِئْسَ مَا قُلْتَ! واللهِ يا رَسُولَ اللهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ إلاَّ خَيْرًا، فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
فَبَيْنَا هُوَ عَلى ذَلِكَ رَأى رَجُلًا مُبْيِضًا يَزُولُ بِهِ السَّرَابُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «كُنْ أَبَا خَيْثَمَةَ»، فَإذَا هُوَ أبُو خَيْثَمَةَ الأنْصَارِيُّ وَهُوَ الَّذِي تَصَدَّقَ بِصَاعِ التَّمْرِ حِيْنَ لَمَزَهُ المُنَافِقُونَ.
قَالَ كَعْبٌ: فَلَمَّا بَلَغَنِي أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ تَوَجَّهَ قَافِلًا مِنْ تَبُوكَ حَضَرَنِي بَثِّي، فَطَفِقْتُ أتَذَكَّرُ الكَذِبَ وأقُولُ: بِمَ أخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ غَدًا؟ وأسْتَعِيْنُ عَلى ذَلِكَ بِكُلِّ ذِي رأْيٍ مِنْ أهْلِي، فَلَمَّا قِيْلَ: إنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قّدْ أظَلَّ قَادِمًا، زَاحَ عَنّي البَاطِلُ حَتَّى عَرَفْتُ أَنِّي لَنْ أَنْجُوَ مِنْهُ بِشَيءٍ أَبَدًا، فَأجْمَعْتُ صدْقَهُ وأَصْبَحَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم قَادِمًا، وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالمَسْجِدِ فَرَكَعَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ، فَلَمَّا فَعَلَ ذلِكَ جَاءهُ المُخَلَّفُونَ يَعْتَذِرونَ إِلَيْه ويَحْلِفُونَ لَهُ، وَكَانُوا بِضْعًا وَثَمانينَ رَجُلًا، فَقَبِلَ مِنْهُمْ عَلانِيَتَهُمْ وَبَايَعَهُمْ واسْتَغْفَرَ لَهُمْ وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إِلى الله تَعَالَى، حَتَّى جِئْتُ، فَلَمَّا سَلَّمْتُ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ المُغْضَبِ.
ثُمَّ قَالَ: «تَعَالَ»، فَجِئْتُ أمْشي حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فقالَ لي: «مَا خَلَّفَكَ؟ ألَمْ تَكُنْ قَدِ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ؟» قَالَ: قُلْتُ: يَا رسولَ الله، إنّي والله لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أهْلِ الدُّنْيَا لَرَأيتُ أنِّي سَأخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ بِعُذْرٍ؛ لقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلًا، ولَكِنِّي والله لَقَدْ عَلِمْتُ لَئِنْ حَدَّثْتُكَ اليوم حَدِيثَ كَذبٍ تَرْضَى به عنِّي لَيُوشِكَنَّ الله أن يُسْخِطَكَ عَلَيَّ، وإنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدقٍ تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ إنّي لأَرْجُو فِيهِ عُقْبَى الله عز وجل والله ما كَانَ لي مِنْ عُذْرٍ، واللهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى وَلَا أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ.
قَالَ: فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أمَّا هَذَا فقَدْ صَدَقَ، فَقُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللهُ فيكَ».
وَسَارَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي سَلِمَة فاتَّبَعُوني فَقالُوا لِي: واللهِ مَا عَلِمْنَاكَ أذْنَبْتَ ذَنْبًا قَبْلَ هذَا لَقَدْ عَجَزْتَ في أَنْ لا تَكونَ اعتَذَرْتَ إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بما اعْتَذَرَ إليهِ المُخَلَّفُونَ، فَقَدْ كَانَ كَافِيكَ ذَنْبَكَ اسْتِغْفَارُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَكَ.
قَالَ: فَوالله ما زَالُوا يُؤَنِّبُونَنِي حَتَّى أَرَدْتُّ أَنْ أرْجعَ إِلَى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فأُكَذِّبَ نَفْسِي، ثُمَّ قُلْتُ لَهُمْ: هَلْ لَقِيَ هذَا مَعِيَ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ، لَقِيَهُ مَعَكَ رَجُلانِ قَالَا مِثْلَ مَا قُلْتَ، وَقيلَ لَهُمَا مِثْلَ مَا قيلَ لَكَ، قَالَ: قُلْتُ: مَنْ هُما؟ قَالُوا: مُرَارَةُ بْنُ الرَّبيع الْعَمْرِيُّ، وهِلَالُ ابنُ أُمَيَّةَ الوَاقِفِيُّ؟ قَالَ: فَذَكَرُوا لِي رَجُلَينِ صَالِحَينِ قَدْ شَهِدَا بَدْرًا فيهِما أُسْوَةٌ، قَالَ: فَمَضَيْتُ حِينَ ذَكَرُوهُما لِي.
ونَهَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَنْ كَلامِنا أيُّهَا الثَّلاثَةُ مِنْ بَيْنِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ، فاجْتَنَبَنَا النَّاسُ - أوْ قَالَ: تَغَيَّرُوا لَنَا - حَتَّى تَنَكَّرَتْ لي في نَفْسي الأَرْض، فَمَا هِيَ بالأرْضِ الَّتي أعْرِفُ، فَلَبِثْنَا عَلَى ذلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً.
فَأمّا صَاحِبَايَ فَاسْتَكَانا وقَعَدَا في بُيُوتِهِمَا يَبْكيَان.
وأمَّا أنَا فَكُنْتُ أشَبَّ الْقَومِ وأجْلَدَهُمْ فَكُنْتُ أخْرُجُ فَأشْهَدُ الصَّلَاةَ مَعَ المُسْلِمِينَ، وأطُوفُ في الأَسْوَاقِ وَلا يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ، وَآتِي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فأُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَهُوَ في مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصَّلاةِ، فَأَقُولُ في نَفسِي: هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْه برَدِّ السَّلام أَمْ لَا؟ ثُمَّ أُصَلِّي قَريبًا مِنْهُ وَأُسَارِقُهُ النَّظَرَ، فَإِذَا أقْبَلْتُ عَلَى صَلاتِي نَظَرَ إلَيَّ وَإِذَا الْتَفَتُّ نَحْوَهُ أعْرَضَ عَنِّي، حَتَّى إِذَا طَال ذلِكَ عَلَيَّ مِنْ جَفْوَةِ المُسْلِمينَ مَشَيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ جِدارَ حائِط أبي قَتَادَةَ وَهُوَ ابْنُ عَمِّي وأَحَبُّ النَّاس إِلَيَّ، فَسَلَّمْتُ عَلَيهِ فَوَاللهِ مَا رَدَّ عَليَّ السَّلامَ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا قَتَادَةَ، أنْشُدُكَ بالله هَلْ تَعْلَمُنِي أُحِبُّ الله وَرَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم؟ فَسَكَتَ، فَعُدْتُ فَنَاشَدْتُهُ فَسَكَتَ، فَعُدْتُ فَنَاشَدْتُهُ، فَقَالَ: اللهُ ورَسُولُهُ أَعْلَمُ.
فَفَاضَتْ عَيْنَايَ، وَتَوَلَّيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ الجِدَارَ، فَبَيْنَا أَنَا أمْشِي في سُوقِ الْمَدِينة إِذَا نَبَطِيٌّ مِنْ نَبَطِ أهْلِ الشَّام مِمّنْ قَدِمَ بالطَّعَامِ يَبيعُهُ بِالمَدِينَةِ يَقُولُ: مَنْ يَدُلُّ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ؟ فَطَفِقَ النَّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ إلَيَّ حَتَّى جَاءنِي فَدَفَعَ إِلَيَّ كِتَابًا مِنْ مَلِكِ غَسَّانَ، وَكُنْتُ كَاتبًا فَقَرَأْتُهُ فإِذَا فِيهِ: أَمَّا بَعْدُ، فإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنا أنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللهُ بدَارِ هَوانٍ وَلَا مَضْيَعَةٍ، فَالْحَقْ بنَا نُوَاسِكَ، فَقُلْتُ حِينَ قَرَأْتُهَا: وَهَذِهِ أَيضًا مِنَ البَلاءِ، فَتَيَمَّمْتُ بهَا التَّنُّورَ فَسَجَرْتُهَا، حَتَّى إِذَا مَضَتْ أَرْبَعُونَ مِنَ الْخَمْسينَ وَاسْتَلْبَثَ الْوَحْيُ إِذَا رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يَأتِيني، فَقالَ: إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَأمُرُكَ أَنْ تَعْتَزِلَ امْرَأتَكَ، فَقُلْتُ: أُطَلِّقُهَا أمْ مَاذَا أفْعَلُ؟ فَقالَ: لَا، بَلِ اعْتَزِلْهَا فَلَا تَقْرَبَنَّهَا، وَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبَيَّ بِمِثْلِ ذلِكَ.
فَقُلْتُ لامْرَأتِي: الْحَقِي بِأهْلِكِ فَكُوني عِنْدَهُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللهُ في هَذَا الأمْرِ.
فَجَاءتِ امْرَأةُ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ لَهُ: يَا رَسُولَ الله، إنَّ هِلَالَ بْنَ أمَيَّةَ شَيْخٌ ضَائِعٌ لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ، فَهَلْ تَكْرَهُ أَنْ أخْدُمَهُ؟ قَالَ: «لَا، وَلَكِنْ لَا يَقْرَبَنَّكِ» فَقَالَتْ: إِنَّهُ واللهِ ما بِهِ مِنْ حَرَكَةٍ إِلَى شَيْءٍ، وَوَالله مَا زَالَ يَبْكِي مُنْذُ كَانَ مِنْ أمْرِهِ مَا كَانَ إِلَى يَومِهِ هَذَا.
فَقَالَ لي بَعْضُ أهْلِي: لَو اسْتَأْذَنْتَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في امْرَأَتِكَ فَقَدْ أَذِن لاِمْرَأةِ هلَال بْنِ أمَيَّةَ أَنْ تَخْدُمَهُ؟ فَقُلْتُ: لَا أسْتَأذِنُ فيها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وَمَا يُدْرِيني مَاذَا يقُول رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إِذَا اسْتَأْذَنْتُهُ، وَأَنَا رَجُلٌ شَابٌ! فَلَبِثْتُ بِذَلِكَ عَشْرَ لَيَالٍ فَكَمُلَ لَنا خَمْسُونَ لَيْلَةً مِنْ حِينَ نُهِيَ عَنْ كَلَامِنا، ثُمَّ صَلَّيْتُ صَلَاةَ الْفَجْرِ صَبَاحَ خَمْسِينَ لَيْلَةً عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِنَا، فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عَلَى الْحالِ الَّتي ذَكَرَ الله تَعَالَى مِنَّا، قَدْ ضَاقَتْ عَلَيَّ نَفْسي وَضَاقَتْ عَلَيَّ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، سَمِعْتُ صَوْتَ صَارِخٍ أوفَى عَلَى سَلْعٍ يَقُولُ بِأعْلَى صَوتِهِ: يَا كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ أبْشِرْ، فَخَرَرْتُ سَاجِدًا، وَعَرَفْتُ أنَّهُ قَدْ جَاءَ فَرَجٌ.
فآذَنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم النَّاسَ بِتَوْبَةِ الله عز وجل عَلَيْنَا حِينَ صَلَّى صَلاةَ الفَجْر فَذَهَبَ النَّاسُ يُبَشِّرُونَنَا، فَذَهَبَ قِبَلَ صَاحِبَيَّ مُبَشِّرونَ وَرَكَضَ رَجُلٌ إِلَيَّ فَرَسًا وَسَعَى سَاعٍ مِنْ أسْلَمَ قِبَلِي، وَأَوْفَى عَلَى الْجَبَلِ، فَكانَ الصَّوْتُ أسْرَعَ مِنَ الفَرَسِ، فَلَمَّا جَاءني الَّذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ يُبَشِّرُني نَزَعْتُ لَهُ ثَوْبَيَّ فَكَسَوْتُهُمَا إيَّاهُ بِبشارته، وَاللهِ مَا أمْلِكُ غَيْرَهُمَا يَوْمَئِذٍ، وَاسْتَعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فَلَبسْتُهُما، وَانْطَلَقْتُ أتَأمَّمُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَتَلَقَّاني النَّاسُ فَوْجًا فَوْجًا يُهنِّئونَني بالتَّوْبَةِ وَيَقُولُونَ لِي: لِتَهْنِكَ تَوْبَةُ الله عَلَيْكَ.
حَتَّى دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ حَوْلَه النَّاسُ، فَقَامَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ رضي الله عنه يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَني وَهَنَّأَنِي، والله مَا قَامَ رَجُلٌ مِنَ المُهَاجِرينَ غَيرُهُ - فَكَانَ كَعْبٌ لَا يَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ.
قَالَ كَعْبٌ: فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنَ السُّرُور: «أبْشِرْ بِخَيْرِ يَومٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُذْ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ» فَقُلْتُ: أمِنْ عِنْدِكَ يَا رَسُول الله أَمْ مِنْ عِندِ الله؟ قَالَ: «لَا، بَلْ مِنْ عِنْدِ الله عز وجل»، وَكَانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ حَتَّى كَأَنَّ وَجْهَهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ وَكُنَّا نَعْرِفُ ذلِكَ مِنْهُ، فَلَمَّا جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ قُلْتُ: يَا رسولَ الله، إنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللهِ وَإِلَى رَسُولهِ.
فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أمْسِكَ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ».
فقلتُ: إِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الَّذِي بِخَيبَر.
وَقُلْتُ: يَا رسولَ الله، إنَّ الله تَعَالَى إِنَّمَا أنْجَانِي بالصِّدْقِ، وإنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ لا أُحَدِّثَ إلاَّ صِدْقًا مَا بَقِيتُ، فوَالله مَا عَلِمْتُ أَحَدًا مِنَ المُسْلِمينَ أبْلاهُ الله تَعَالَى في صِدْقِ الحَدِيثِ مُنْذُ ذَكَرْتُ ذلِكَ لِرسولِ الله صلى الله عليه وسلم أحْسَنَ مِمَّا أبْلانِي الله تَعَالَى، واللهِ مَا تَعَمَّدْتُ كِذْبَةً مُنْذُ قُلْتُ ذلِكَ لِرسولِ الله صلى الله عليه وسلم إِلَى يَومِيَ هَذَا، وإنِّي لأرْجُو أَنْ يَحْفَظَنِي الله تَعَالَى فيما بَقِيَ، قَالَ: فأَنْزَلَ الله تَعَالَى: ﴿ لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ ﴾ حَتَّى بَلَغَ: ﴿ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيم وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ﴾ حَتَّى بَلَغَ: ﴿ اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ ( التوبة: 117 - 119 ) قَالَ كَعْبٌ: واللهِ ما أنْعَمَ الله عَليَّ مِنْ نعمةٍ قَطُّ بَعْدَ إذْ هَدَاني اللهُ للإِسْلامِ أَعْظَمَ في نَفْسِي مِنْ صِدقِي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أَنْ لا أكونَ كَذَبْتُهُ، فَأَهْلِكَ كما هَلَكَ الَّذينَ كَذَبُوا؛ إنَّ الله تَعَالَى قَالَ للَّذِينَ كَذَبُوا حِينَ أنْزَلَ الوَحْيَ شَرَّ مَا قَالَ لأَحَدٍ، فقال الله تَعَالَى: ﴿ سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴾ ( التوبة: 95 - 96 ) قَالَ كَعْبٌ: كُنّا خُلّفْنَا أيُّهَا الثَّلَاثَةُ عَنْ أمْرِ أُولئكَ الذينَ قَبِلَ مِنْهُمْ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حِينَ حَلَفُوا لَهُ فَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ وأرجَأَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أمْرَنَا حَتَّى قَضَى الله تَعَالَى فِيهِ بذِلكَ.
قَالَ الله تَعَالَى: ﴿ وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا ﴾ وَليْسَ الَّذِي ذَكَرَ مِمَّا خُلِّفْنَا تَخلُّفُنَا عن الغَزْو، وإنَّمَا هُوَ تَخْلِيفُهُ إيّانا وإرْجَاؤُهُ أمْرَنَا عَمَّنْ حَلَفَ لَهُ واعْتَذَرَ إِلَيْهِ فقبِلَ مِنْهُ. مُتَّفَقٌ عليه.
وفي رواية: أنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ في غَزْوَةِ تَبْوكَ يَومَ الخَميسِ وكانَ يُحِبُّ أَنْ يخْرُجَ يومَ الخمِيس.
وفي رواية: وكانَ لَا يقْدمُ مِنْ سَفَرٍ إلاَّ نَهَارًا في الضُّحَى، فإِذَا قَدِمَ بَدَأَ بالمَسْجِدِ فَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَلَسَ فِيهِ.
النصف الثاني من شرح الحديث
يقول رضي الله عنه: إنه لما بلغه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رجع قافلًا من الغزو، بدأ يفكِّر ماذا يقول لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا رجع؟ يريد أن يتحدث بحديث وإن كان كذبًا، من أجل أن يعذره النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه، وجعل يشاور ذوي الرأي من أهله، ماذا يقول، ولكن يقول رضي الله عنه: فلما بلغ النبي - عليه الصلاة والسلام - المدينة ذهب عنه كل ما جمعه من الباطل، وعزم على أن يبيِّن للنبي -صلى الله عليه وسلم- الحق؛ يقول: فقدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة ودخل المسجد، وكان من عادته وسنته أنه إذا قدم بلده فأول ما يفعل أن يصلي في المسجد - عليه الصلاة والسلام - وهكذا أمر جابرًا - رضي الله عنه - كما سأذكره إن شاء الله، فدخل المسجد، وصلى، وجلس للناس، فجاءه المخلَّفون الذين تخلفوا من غير عذر من المنافقين، وجعلوا يحلفون له إنهم معذورون، فيبايعهم ويستغفر لهم، ولكن ذلك لا يفيدهم - والعياذ بالله - لأن الله قال: ﴿ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ﴾ ( التوبة: 80 )، فيقول: أمَّا أنَا فعزمت أن أَصْدُق النبي - عليه الصلاة والسلام - وأُخبرَه بالصدق، فدخلت المسجد، فسلمت عليه، فتبسم تبسم المغضب؛ أي: الذي غير راض عني - ثم قال: «تَعَالَ»، فلما دنوت منه، قال لي: «مَا خَلَّفَكَ؟».
فقال رضي الله عنه: يا رسول الله، إني لم أتخلف لعذر، وما جمعت راحلتين قبل غزوتي هذه، وإني لو جلست عند أحد من ملوك الدنيا لخرجت منه بعذر، فلقد أوتيت جدلًا؛ يعني: لو أني جلست عند شخص من الملوك لعرفت كيف أتخلص منه؛ لأن الله أعطاني جدلًا - ولكني لا أحدثك اليوم حديثًا ترضى به عني فيوشك أن يسخط الله عليَّ في ذلك. انظر إلى الإيمان! قال: لا يمكن أن أحدثك بالكذب، ولو حدثتك بالكذب، ورضيت عني اليوم، فإنه يوشك أن يسخط الله عليَّ. فأخبر النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- بالصدق، فأجَّله. يقول كعب: إنه أتى إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصدقه القول، وأخبره أنه لا عذر له لا في بدنه ولا في ماله، بل إنه لم يجمع راحلتين في غزوة قبل هذه.
فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- : «أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ»؛ ويكفي له فخرًا أن وصفه النبي - عليه الصلاة والسلام - بالصدق: «أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ، فَاذْهَبْ حَتَّى يَقْضِيَ اللهُ فِيكَ مَا شَاءَ»؛ فذهب الرجل مستسلمًا لأمر الله عز وجل مؤمنًا بالله، وأنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
فلحقه قوم من بني سلمه، من قومه، وجعلوا يُزيِّنون له أن يرجع عن إقراره، وقالوا له: إنك لم تُذنب ذنبًا قبل هذا؛ يعني: مما تخلَّفْتَ به عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويكفيك أن يستغفر لك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإذا استغفر لك الرسول -صلى الله عليه وسلم- غفر الله لك، فارجع كذب نفسك؛ قل: إني معذور، حتى يستغفر لك الرسول - عليه الصلاة والسلام - فيمن استغفر لهم ممن جاءوا يعتذرون إليه، فهَمَّ أن يفعل - رضي الله عنه - ولكن الله سبحانه أنقذه وكتب له هذه المنقبة العظيمة التي تتلى في كتاب الله إلى يوم القيامة.
فسأل قومه: هل أحد صنع مثلما صنعت؟ قالوا: نعم، هلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، قالا مثلما قلت، وقيل لهما مثلما قيل لك. يقول: «فذكروا لي رجلين صالحين شهدا بدرًا لي فيهما أسوة». أحيانًا يقيِّض الله للإنسان ما يجعله يدع الشر اقتداء بغيره وتأسيًا به. فهو- رضي الله عنه - لَمَّا ذُكِر له هذان الرجلان - وهما من خيار عباد الله من الذين شهدوا بدرًا - فقال: «لي فيهما أسوة، فمضيتُ»؛ أي: لم يرجع إلى النبي عليه الصلاة والسلام.
فأمر النبي - عليه الصلاة والسلام- الناس أن يهجروهم فلا يكلِّموهم؛ فهجرهم المسلمون، ولكنهم بعد ذلك صاروا يمشون وكأنهم بلا عقول، قد ذهلوا، وتنكرت لهم الأرض، فما هي بالأرض التي كانوا يعرفونها؛ لأنهم يمشون إن سلَّموا لا يُرَد عليهم السلام، وإن قابلهم أحد لم يبدأهم بالسلام، وحتى النبي- عليه الصلاة والسلام- وهو أحسن الناس خلقًا - لا يسلِّم عليهم السلام العادي. يقول كعب: «كنت أحضر وأسلِّم على النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا أدري: أَحَرَّك شفتيه بِرَدِّ السلام أم لا».
هذا وهو النبي - عليه الصلاة والسلام - وما ظنك برجل يُهجر في هذا المجتمع الإسلامي الذي هو خير القرون؟ إنها ستضيق عليه الأرض، وفعلًا ضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، وبقوا على هذه الحال مدة خمسين يومًا؛ أي: شهرًا كاملًا وعشرين يومًا، والناس قد هجروهم، فلا يُسلِّمون عليهم. ولا يردون السلام إذا سلَّموا، وكأنهم في الناس إِبِلٌ جُرْبٌ لا يقربهم أحد. فضاقت عليهم الأمور، وصعبت عليهم الأحوال، وفروا إلى الله عز وجل، ولكن مع ذلك لم يكن كعب بن مالك يدع الصلاة مع الجماعة.
فكان يحضر ويسلم على النبي - عليه الصلاة والسلام - ولكن في آخر الأمر ربما يتخلف عن الصلوات لما يجد في نفسه من الضيق والحرج؛ لأنه يخجل أن يأتي إلى قوم يصلي معهم وهم لا يكلمونه أبدًا، لا بكلمة طيبة ولا بكلمة تأنيب، فتركوهم بالكلية، فضاقت عليهم الأرض، وبقوا على هذه الحالة خمسين ليلة تامة، ولما تمت لهم أربعون ليلة أرسل إليهم النبي- عليه الصلاة والسلام - أن يعتزلوا نساءهم. إلى هذا الحد، فرَّق بينهم وبين نسائهم.
وما ظنك برجل مثل كعب بن مالك وهو شاب يُعزل عن امرأته؟ أمر عظيم، ولكن مع ذلك لما جاءهم رسول الرسول - عليه الصلاة والسلام - وقال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- يأمرك أن تعتزل امرأتك. قال: أُطلِّقها أم ماذا؟ لأنه لو قال له: طلِّقها، لطلَّقها بكل سهولة؛ طاعة لله ورسوله؛ فسأل، قال: أُطلِّقها أم ماذا؟ فقال له رسول الرسول: إن الرسول - عليه الصلاة والسلام - يأمرك أن تعتزل أهلك. وبقي على ظاهر اللفظ؛ حتى الصحابي الذي أُرسل ما حرَّف النص، لا معني ولا لفظًا، قال هكذا، قال: ولا أدري.
وهذا من أدب الصحابة - رضي الله عنهم - ما قال: أظن أنه يريد أن تطلقها، ولا: أظن أنه يريد أن لا تطلقها! ما قال شيئًا، بل قال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال هذا، فقال كعب لزوجته: الحقي بأهلك. فلحقت بأهلها. «فأما صاحباي فاستكانا في بيوتهما يبكيان»؛ لأنهما لا يستطيعان أن يمشيا في الأسواق، والناس قد هجروهم لا يلتفت إليهم أحد، ولا يسلِّم عليهم أحد، وإذا سلَّموا لا يُرَدُّ عليهم السلام، فعجزوا عن تحمل هذه الحال، فبقيا في بيوتهما يبكيان.
يقول: «وأما أنا فكنت أشب القوم، وأجلدهم»؛ أشبهم: أقواهم. وأجلدهم: أصبرهم؛ لأنه أشب منهم، أصغر منهم سنًّا، فكان يشهد صلاة الجماعة مع المسلمين، ويطوف بأسواق المدينة لا يكلمه أحد، لا يكلمه أحد؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بهجرهم، وكان الصحابة- رضي الله عنهم - أطوع الناس لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
يقول: «وكنت آتي المسجد فأصلي، وأسلم على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو جالس للناس بعد الصلاة، فأقول: هل حَرَّك شفتيه برد السلام أم لا»؛ أي: ما يرد عليه ردًّا يُسمع، هذا مع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس خلقًا، ولكن امتثالًا، لَمَّا أوحى الله إليه أن يهجر هؤلاء القوم، هجرهم.
ويقول: كنت أصلي وأسارق النبي -صلى الله عليه وسلم- النظر، يعني: أنظر إليه أحيانًا وأنا أصلي، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليَّ، وإذا التفت إليه أعرض عني. كل هذا من شدة الهجر. يقول: «فبينما أنا أمشي ذات يوم في أسواق المدينة، وطال عليَّ جفوةُ الناس، تسوَّرت حائطًا لأبي قتادة رضي الله عنه»، تسوَّره: دخله من فوق الجدار من دون الباب، وكأن الباب مغلق. والعلم عند الله. يقول: «فسلمت عليه، فوالله ما ردَّ على السلام»، وهو ابن عمه، وأحب الناس إليه، ومع ذلك لم يَرُدَّ عليه السلام، مع أن الرجل كان مَجْفيًّا من الناس، منبوذًا، لا يكلَّم، ولا يسلَّم عليه، ولا يُرَدُّ عليه السلام، ومع ذلك لم يعطف عليه ابن عمه أبو قتادة.
كل هذا طاعة لله ورسوله؛ لأن الصحابة - رضي الله عنهم- لا تأخذهم في الله لومة لائم، ولا يحابون أحدًا في دين الله، ولو كان أقرب الناس إليهم، فقال له: أنشدك الله، هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ فلم يرد عليه. مرتين يناشده مناشدة؛ هل يعلم أنه يحب الله ورسوله أم لا؟ وأبوقتادة يدري، ويعلم أن كعب بن مالك يحب الله ورسوله.
فلما رد عليه الثالثة، وقال: أنشدك الله هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ فقال: الله ورسوله أعلم. لم يكلمه، فلم يقل: نعم؟ ولا قال: لا. يقول: ففاضت عيناي؛ أي: بكى - رضي الله عنه - أن رجلًا - ابن عمه - أحب الناس إليه لا يكلمه مع هذه المناشدة العظيمة. مع أنها - أيضًا - مسالة تعبُّديَّة؛ لأن قوله: أنشدك الله، هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ طلب شهادة، ومع ذلك لم يشهد له، مع أنه يعلم أنه يحب الله ورسوله؛ ففاضت عيناه. وتسور البستان؛ أي: خرج إلى السوق، فبينما هو يمشي إذا برجل نَبَطِي من أنباط الشام - والنبطي: الذي ليس بعربي، ولا بعجمي، وسموا بذلك لأنهم كانوا يخرجون في البراري يستنبطون الماء - يقول: من يدلني على كعب بن مالك!
انظر إلى أهل الشر ينتهزون الفرص!
فعندما قال: من يدلني علي كعب بن مالك؟ قلت: أنا هو، فأعطاني الورقة، وكنت كاتبًا؛ لأن الكُتَّاب في ذلك العهد قليلون جدًا. يقول: «فقرأت الكتاب، فإذا فيه: أما بعد، فقد بلغنا أن صاحبك جفاك - يعني: الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان هذا الملك، ملك غسان كافرًا - وإنك لست بدار هوان ولا مضيعة؛ يعني: تعال إلينا نواسك بأموالنا، وربما نواسيك بملكنا. ولكن الرجل رجل مؤمن بالله تعالى ورسوله، ومحب لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم. قال: وهذه من البلاء؛ يعني: هذا من الامتحان، وصدق - رضي الله عنه - رجل مجفوٌّ لا يُكلَّم، مهجور منبوذ حتى من أقرب الناس إليه، لو كان في قلبه ضعف إيمان لا نتهز الفرصة بدعوة هذا الملك، وذهب إليه، لكن عنده إيمان راسخ؛ يقول: قلت: «هذه من البلاء»، ثم ذهب إلى التنور فسجره فيه؛ يعني: أوقدها بالتنور.
وإنما أوقدها في التنور ولم يجعلها معه لئلَّا توسوس له نفسه بعد ذلك أن يذهب إلى هذا الملك، فأتلفها حتى ييأس منها، ولا يحاول أن يجعلها حجة يذهب بها إلى هذا الملك، ثم بقي على ذلك مدة. ففي هذه القطعة من الحديث دليل على جواز التخلف عن الجماعة إذا كان الإنسان مهجورًا منبوذًا، وعجزت نفسه أن تتحمل هذا، كما فعل صاحبا كعب بن مالك رضي الله عنهم. لأنه لا شك أنه من الضيق والحرج أن يأتي الإنسان إلى المسجد مع الجماعة لا يسلَّم عليه، ولا يُرَد سلامه، ومهجور ومنبوذ، هذا تضيق به نفسه ذرعًا ولا يستطيع، وهذا عذر كما قاله العلماء. فإن هذا الملك - ملك غسان- انتهز الفرصة في كعب بن مالك - رضي الله عنه- يدعوه إلى الضلال لعله يرجع عن دينه إلى دين هذا الملك بسبب هذا الضيق.
يقول رضي الله عنه: «فلما تمت لنا أربعون ليلة»؛ يعني: شهر وعشرة أيام، وكان الوحي قد استلبث فلم ينزل كل هذه المدة، وهذه من حكمة الله عز وجل في الأمور الكبيرة العظيمة، يستلبث الوحي ولا ينزل، كما في هذه القصة، وكما في قصة الإفك حين انقطع الوحي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم. وهذا من حكمة الله عز وجل حتى يتشوف الناس إلى الوحي ويتشوقوا إليه: ماذا سيُنزل ربُّ العالمين عز وجل؟ فبقي الوحي أربعين ليلة ما نزل، فلما تمت أربعون ليلة أرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى كعب وصاحبيه هلال بن أمية، ومرارة بن الربيع - رضي الله عنهم- أن يعتزلوا نساءهم.
وجاءت زوجة هلال بن أمية إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأخبرته بأنه في حاجة إليها لتخدمه؛ لأنه ليس له خادم، فأذن لها النبي -صلى الله عليه وسلم- بشرط أن لا يقربها، فقالت: «إنه والله ما به من حركة إلى شيء»؛ يعني: أنه ليس له شهوة في النساء، وأنه يبكي- رضي الله عنه - منذ أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بهجرهم إلى يومه هذا، أربعون يومًا يبكي؛ لأنه ما يدري ماذا تكون النهاية.
يقول رضي الله عنه: «فلما مضى عشر ليال بعد هذا، وكنت ذات يوم أصلي الصبح على سطح بيت من بيوتنا»؛ لأنه كما مَرَّ كانوا - رضي الله عنهم- قد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، واستنكروا الأرض، واستنكروا الناس، يأتون إلى المسجد لا يكلمهم أحد، وإن سلموا لم يرد عليهم، وإن مر بهم أحد لم يسلِّم عليهم، ضاقت عليهم الأرض، فصار ذات يوم يصلي الصبح في بيته على سطحه، يقول: «فسمعت صارخًا يقول وهو على سلع - وهو جبل معروف في المدينة - أوفى عليه وصاح بأعلى صوته يقول: يا كعب بن مالك، أبشر، يا كعب بن مالك، أبشر».
يقول: «فخررت ساجدًا، وعرفت أنه قد جاء فرج»، وركب فارس من المسجد يؤم كعب بن مالك ليبشره، وذهب مبشرون إلى هلال بن أمية، ومرارة بن الربيع يبشرونهما بتوبة الله عليهما. فانظر إلى فرح المسلمين بعضهم مع بعض، كلٌّ يذهب يسعى ويركض من جهة. يقول: فجاء الصارخ، وجاء صاحب الفرس، فكانت البشرى للصارخ؛ لأن الصوت أسرع من الفرس، يقول: فأعطيته ثوبيَّ؛ الإزار والرداء، وليس يملك غيرهما، لكن استعار من أهله أو من جيرانه ثوبين، فلبسهما، وأعطى ثوبيه هذا الذي بشره. أعطاه كل ما يملك، لا يملك غير الثوبين، لكنها والله بشرى عظيمة، بشرى من الله سبحانه وتعالى عظيمة، أن يُنزل الله توبتهم ويمن عليهم بالتوبة.
ثم نزل متوجهًا إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- في المسجد، وإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجزاه الله عن أمته خيرًا - قد بشر الناس بعد صلاة الصبح بأن الله أنزل توبته على هؤلاء الثلاثة؛ لأنه يحب من أصحابه وأمته ان يتوبوا ويرجعوا إلى الله.
يقول: فذهبت أتأمم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعني: أقصده، فجعل الناس يلاقونني أفواجًا؛ يعني: جماعات، يهنئونه بتوبة الله عليه رضي الله عنه. هؤلاء القوم يحبون لإخوانهم ما يحبون لأنفسهم، فلم يحسدوهم على ما أنعم الله به عليهم من إنزال القرآن العظيم بتوبتهم، بل جعلوا يهنئونهم حتى دخل المسجد. يقول رضي الله عنه: «حتى دخلت المسجد وإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس وحوله أصحابه»، فقام إلى كعبٍ طلحةُ بنُ عبيد الله - رضي الله عنه - فصافحه وهنأه بتوبة الله عليه.
يقول: «والله ما قام إليَّ أحد من المهاجرين رجل غير طلحة»؛ فكان لا ينساها له، حيث قام ولاقاه وصافحه وهنأه، حتى وقف على النبي -صلى الله عليه وسلم- وإذا وجهه تبرق أساريره؛ لأنه- عليه الصلاة والسلام- سره أن يتوب الله على هؤلاء الثلاثة الذين صدقوا الله ورسوله، وأخبروا بالصدق عن إيمان، وحصل عليهم ما جرى من الأمر العظيم، من هجر الناس لهم خمسين يومًا، حتى نسائهم بعد الأربعين أمر الرسول - عليه الصلاة والسلام - أن يعتزلوهن.
ثم قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُذْ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ».
وصدق النبي -صلى الله عليه وسلم- خير يوم مر على كعب منذ ولدته أمه هو ذلك اليوم، لأن الله أنزل توبته عليه وعلى صاحبيه في قرآن يتلى، تكلم به رب العالمين عز وجل، وأنزله على محمد -صلى الله عليه وسلم- محفوظًا بواسطة جبريل، ومحفوظًا إلى يوم القيامة، ولا يوجد أحد سوى الأنبياء أو من ذكرهم الله في القرآن حُفظت قصته كما حفظت قصة كعب بن مالك وصاحبيه رضي الله عنهم. بقيت هذه القصة تتلى في كتاب في المحاريب وعلى المنابر وفي كل مكان، ومن قرأ هذه القصة فله بكل حرف عشر حسنات، فهذا اليوم لا شك أنه خير يوم مر على كعب منذ ولدته أمه.
فقال كعب: إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله؛ أي: يتخلى عنه ويجعله صدقة إلى الله ورسوله شأنه وتدبيره. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- : «أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ»؛ فأمسكه رضي الله عنه.
واستفدنا من الحديث فائدتين عظيمتين:
الفائدة الأولى: أن الإنسان لا ينبغي له أن يتأخر عن فعل الخير، بل لا بد أن يتقدم ولا يتهاون أو يتكاسل.
الفائدة الثانية: أن المنافقين يلمزون المؤمنين؛ إن تصدق المسلمون بكثير، قالوا: هؤلاء مراؤون، وإن قلَّلوا بحسب طاقتهم، قالوا: إن الله غني عن عملك وغني عن صاعك، كما سبق.
وإلى هنا ينتهي الجزء الثالث والأخير من موضوع من أحاديث التوبة
ولمن لم يراجع الجزء الأول والثاني لا تنسى قراءة
==> الجزء الأول من أحاديث التوبة
==> الجزء الثاني من أحاديث التوبة
==> النصف الأول من الجزء الثالث من أحاديث التوبة
توقيع: AsHeK EgYpT
Mahmoud Gilany و moment يعجبهم هذا الموضوع
moment
عضو جديد
البلد :
الجنس :
المساهمات : 48
العمر : 29
السٌّمعَة : 0
الجنس :
المساهمات : 48
العمر : 29
السٌّمعَة : 0
عضو جديد
لقد شارك هذا العضو في أكثر من 1 مساهمة مختلفة!
عضو مُخضرم
هذا العضو ينتمي إلى هذا المنتدى منذ 2 سنة!
عضو محبوب
لقد أُعجب هذا العضو أكثر من 5 مشاركة!
الخميس 13 يونيو - 17:23
اللهم اغفر لنا وتوب علينا وتوفنا مع لابرار
عبد الله
عضو مميز
البلد :
الجنس :
المساهمات : 172
العمر : 37
السٌّمعَة : 2
الجنس :
المساهمات : 172
العمر : 37
السٌّمعَة : 2
عضو مُخضرم
هذا العضو ينتمي إلى هذا المنتدى منذ 2 سنة!
عضو مُساهم
لقد شارك هذا العضو في أكثر من 100 مشاركة وتعليق!
عضو مُتسلق
لقد شارك هذا العضو في أكثر من 100 موضوعًا مختلفًا ، استمر في ذلك!
عضوية مميزة
هذا العضو ينتمي إلى مجموعة العضوية المميزة!
الجمعة 14 يونيو - 5:12
جزاك الله خيراً
حياة القلوب
اسد المنتدى
البلد :
الجنس :
المساهمات : 844
العمر : 36
السٌّمعَة : 49
الجنس :
المساهمات : 844
العمر : 36
السٌّمعَة : 49
الأكثر إعجابا
لقد حصلت على أكثر من 50 إعجابا على مشاركاتك .. أعضائنا لديهم الحق فأنت لديك الكثير لتقدمه
اسد المنتدى
هذا العضو ينتمي إلى مجموعة اسد المنتدى!
عضو مُساهم
لقد شارك هذا العضو في أكثر من 100 مشاركة وتعليق!
عضو مُخضرم
هذا العضو ينتمي إلى هذا المنتدى منذ 2 سنة!
عضو مُتسلق
لقد شارك هذا العضو في أكثر من 100 موضوعًا مختلفًا ، استمر في ذلك!
الجمعة 14 يونيو - 5:36
رائع احسنت النشر
Mahmoud Gilany
مشرف سابق
البلد :
الجنس :
المساهمات : 495
العمر : 33
السٌّمعَة : 4
الجنس :
المساهمات : 495
العمر : 33
السٌّمعَة : 4
مشرف سابق
لقد كان هذا العضو جزءًا من فريق العمل سابقاً!
إعجاب المساهمات
لقد أعجبك أكثر من 50 مشاركة!
عضو مُساهم
لقد شارك هذا العضو في أكثر من 100 مشاركة وتعليق!
عضو مُتسلق
لقد شارك هذا العضو في أكثر من 100 موضوعًا مختلفًا ، استمر في ذلك!
عضو نشيط للغاية
لقد قمت بفتح أكثر من 100 موضوعا في المنتدى
الذكرى الرابعة (إنشاء المنتدى)
هذا العضو ينتمي إلى هذا المنتدى منذ إنشاء المنتدى!
الأكثر إعجابا
لقد حصلت على أكثر من 50 إعجابا على مشاركاتك .. أعضائنا لديهم الحق فأنت لديك الكثير لتقدمه
الجمعة 14 يونيو - 11:21
معلومات قيمة ومفيدة
أخى الحبيب
جزاكم الله عنا كل خير
وجعلة فى موازين حسناتكم
إن شاء الله
توقيع: Mahmoud Gilany
أهلا ومرحبا بكم أعضاء و زوار منتدنا الحبيب بابل
هذا المنتدى منكم وإليكم .
كونك أحد أعضاء أو من رواد هذا المنتدى فأنت مؤتمن لك حقوق وعليك واجبات !!
ليس العبرة بعدد مساهماتك !! وإنما ماذا كتبت وماذا قدمت لأخوانك الأعضاء و الزوار .
ونحن أملين أن تتم المشاركة بينكما بكل حب و أحترام
A_H_M_E_D
عضو جديد
البلد :
الجنس :
المساهمات : 5
العمر : 32
السٌّمعَة : 0
الجنس :
المساهمات : 5
العمر : 32
السٌّمعَة : 0
عضو جديد
لقد شارك هذا العضو في أكثر من 1 مساهمة مختلفة!
عضو في المنتدى
عضو جديد ينتمي إلى منتدى بابل
السبت 15 يونيو - 17:42
جزاك الله خيراً
AsHeK EgYpT
نائب الإدارة
البلد :
الجنس :
المساهمات : 2169
العمر : 28
السٌّمعَة : 45
الجنس :
المساهمات : 2169
العمر : 28
السٌّمعَة : 45
نائب الادارة
هذا العضو ينتمي إلى مجموعة نائب الادارة!
خبير المنتديات
هذا المستخدم خبير في استضافة منتديات أحلى منتدى المجانية
إعجاب المساهمات
لقد أعجبك أكثر من 50 مشاركة!
عضو مُساهم
لقد شارك هذا العضو في أكثر من 100 مشاركة وتعليق!
عضو مُخضرم
هذا العضو ينتمي إلى هذا المنتدى منذ 2 سنة!
عضو ودود
لقد أضاف هذا العضو أكثر من 10 أعضاء من أعضاء المنتدى كأصدقاء!
عضو مُتسلق
لقد شارك هذا العضو في أكثر من 100 موضوعًا مختلفًا ، استمر في ذلك!
عضو نشيط للغاية
لقد قمت بفتح أكثر من 100 موضوعا في المنتدى
المحبوب الحقيقي للأعضاء
لقد حصلت على أكثر من 100 إعجابا على مشاركاتك .. يبدو أن أعضائنا يحبونك حقًا!
سجل دخولك أو سجل عضوية جديدة لتستفيد أكثر من المنتدى!
سجل دخولك أو سجل عضوية جديدة لتحصل على المزيد من المنتدى!
صلاحيات المنتدى
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى